كتب :هشام البستاني
لطالما ارتبط المغرب في المخيال الشعبيّ العربيّ بأعمال السحر والشعوذة وفكّ الرّصد وإخراج الجنّ من الجسد، حتى باتت صفّة «المغربيّ» مؤهّلًا إضافيًّا يدّعيه المشتغلون في هذا العالم الموازي، ويضيفونه إلى أسمائهم، وبات استدعاء «شيخٍ من المغرب» لتمكين المنقّبين عن الكنوز الأثرية من الحصول على كنز مرصود، يحرسه ثعبان مثلًا، أمرًا تسمعه عرضًا بين حينٍ وآخر.
الصوفيّة وتأثيراتها على الأدب
لا أعرف سببًا قاطعًا لهذا الارتباط، ربّما هو بعد المسافة بين محور المنطقة العربيّة الواقع في المشرق، وبين امتداته إلى حيث تغرب الشمس عن متّحدّثي العربيّة عند المحيط الأطلسيّ، إذ يؤدّي هذا البعد إلى تشكيل خيالات تتعلّق بالغموض، والإكزوتيكيّة، وأحيانًا: الخوف؛ وربّما يكون السبّب تجذّر الطرق الصوفية بأشكالها وأنواعها المختلفة في المغرب، وما يرتبط بها، أو ببعضها، من روحانيّات و«إشراقات» و«كرامات» و«رؤى» و«كشوفات» و«تجليّات» و«مشاهدات» قد تصل إلى درجة «الحلول في الله» و«معرفة الغيب» والتأثير في مجريات العالم، يدعم هذا التفسير أن طرقًا صوفيّة مؤثرة (على رأسها الطريقة الشاذليّة)، وصوفيّون معروفون (أهمّهم أحمد البدوي، أحد أقطاب الصوفية الأربعة الكبار)، أتوا من المغرب. ولا ننسى أن سبل الاتصال المباشر قديمًا كانت ترتبط بمواسم الحج السنويّ إلى مكّة، وربّما كان يُنظر إلى هؤلاء القادمين من المغرب، قاطعين المسافات الطويلة، والمخاطر الكثيرة، والجغرافيّات المتعدّدة، للوصول إلى الكعبة والعودة منها، بشيء من الإعجاب المشوب بالرّهبة، والتقدير المطعّم بالهيبة، وفهمٍ يدلّ على قدراتٍ خارقة لا بدّ يملكها هؤلاء تُعينهم على رحلتهم الصّعبة.
تبرز هذه الرّوح السحريّة بأشكالٍ متعدّدةٍ داخل المدوّنة الأدبيّة المغربيّة، لا سيّما ذلك الحضور اللافت للأولياء، والرّائين، وأصحاب الخرق، والمجاذيب، وأصحاب الكرامات، وأولئك الذين يُعوَّض نقصهم الجسديّ بصفات روحيّة تسبغ عليهم هالة من الجلال والقدسيّة؛ أو بحضور هذه الصفات لدى شخصيّات القصّة نفسها، أو تأثّرهم بحامليها.
الواقعيّة السحريّة، والكتابة المغربيّة السّاحرة
محمد زفزاف
يمكن الحديث هنا عن افتراق هذه الكتابة عمّا يسمى بمدرسة الواقعيّة السحريّة، ففي حين تُدرِج هذه الأخيرة –عمومًا- عناصر «سحريّة» أو خارقة أو غير مألوفة على كتابة قد توصف خلاف ذلك بأنّها «واقعيّة»، فإن الكتابة في المغرب، أو في جزءٍ وازنٍ منها لأكون أكثر دقة، تمتح من واقعها السحريّ وتتأثر به. أي: يمكن أن نقول أن الاتّجاهين متعاكسين، فبينما تسحب الواقعيّة السحريّة الواقع إلى أماكن سحريّة، أو تضفي عليه عناصر سحريّة، تسحب الكتابة المغربية كتابتها من واقعٍ سحريّ، أو (لنبتعد قدر الإمكان عن الإكزوتيكيّة)، من واقعٍ ساحر، تؤثّر وتفعل فيه عناصر مشتقّة من فهم متعدّد ومتداخل وعضويّ، يجمع (دون حدود واضحة وحاسمة) بين العالمين: الماديّ والفكريّ (الروحيّ).
تمتدّ هذه السّحريّة الرؤيويّة إلى أعمال غير المغاربة إن هم كتبوا عنها أو فيها، ولعلّ النموذج الأبرز في ذلك هو محمود الريماوي: قاصّ مقيمٌ في الأردن لكنه كثير الزيارات إلى المغرب، ويقيم فيه لفترات قصيرة. خلال وبعد واحدة من تلك الإقامات، كتب مجموعة قصصية بديعة تحمل اسم «عمّ تبحث في مراكش» (2015)، تدور أحداث معظم قصصها في المغرب؛ وخلافًا لكلّ مجموعاته السّابقة لها واللاحقة عليها، يمكن التقاط آثار هذا النسق السحريّ المغربيّ بوضوح في كتابه المذكور، ويمكن التعرّف على بعض ملامح هذا النسق في قصّته: «تلك الحافلة»، التي تدور وقائعها بين مرّاكش وفرنسا، والمنشورة ضمن ملف «قصص من الأردن» الملحق بعدد 1292، الأحد 29 إبريل 2018، من أخبار الأدب، وبترجمة إلى الإنجليزية في نفس الملف المنشور بالتزامن في عدد 15، ربيع 2018، من مجلة «ذي كومون».
كما يمكن التقاط عناصر هذا النسق في قصّتين من المغرب اخترتهما عام 2016 للعدد الخاص من «ذي كومون»، المسمى «تجديد» (عدد 11، ربيع 2016)، والذي تم تخصيصه بالكامل للقصص العربيّة المترجمة»، وهاتان القصتان هما «مينوش» لأنيس الرافعي، و«بومة روسكيلده» لإسماعيل غزالي، رغم أن أحداث الأخيرة تقع في مدينة دينماركيّة. وطبعًا، يمكن التقاط هذه العناصر في القصص المختارة ضمن هذا الملف، وسنأتي على استعراضٍ لها بعد قليل.
القصّة كضجيج حيويّ: حضور الساحة موضوعًا وشكلًا كتابيًّا
خاصيّة أخرى تظهر في الكثير من الكتابات المغربيّة، هي تأثير السّاحات العامة ومقاهيها وما يدور فيها على موضوع الكتابة، والأهم: على شكلها، وهو ما سأسميّه: «شكل الساحة» في الكتابة. سنرى هذا الشكل في عدد غير قليل من قصص هذا الملف، وفي أدب المغرب بشكل عام، متمثّلًا بوجود الكثير من اللّغط والكلام المتداخل والحوارات الصاخبة في جوّ القطعة الأدبيّة، وأحيانًا: في مركزها، إذ تدار عناصر الكتابة ليس فقط بالتتالي السرديّ، بل بالمقاطع المتداخلة، والروائح، والأصوات، والحركة داخلةً وخارجةً من النصّ، ومتفاعلةً معه، تكون في مقدّمة الكتابة حينًا، وأحيانًا أخرى في خلفيتها.
ربّما استلّ هذا الشكل من عالم وثقافة المقاهي والسّاحات المنتشرة بكثافة في المدن المغربيّة، ومن كونها فضاءات متداخلة للاشتباك والتفاعل الاجتماعيّين، وربما، وبشكل أخصّ، من مرّاكش، وقلبها النابض: ساحة جامع الفْنَا (الفناء)، التي يكفينا اسمها الدالّ المتعدد المعاني، المارّ من الموت والاندثار على جهةٍ من المعنى، إلى الذوبان في الذات الإلهيّة على الجهة الاخرى (إن قُرئت الكلمة بفتح الفاء)، مرورًا بالمعنى القريب من «ساحة الدار» أو ساحة الجامع، التي تجمع سكّان المدينة وأهلها (إن قُرئت الكلمة بكسر الفاء)، عناء مزيد من الشرح.
ساحة جامع الفْنَا هذه، كما توجد في الواقع، وكما تصوّرها كتابات المغاربة وغيرهم، هي كرنفالٌ صاخبٌ من الناس والأصوات والروائح، تذكّرنا بأجواء أفلام فيديريكو فيلّيني وحركتها وضجيجها، لكنّ الفرق هي أنّها أسبق، وأنّها حقيقيّة، من لحم ودم، شخصيّاتها تتنوّع بين روّاد أشبه بالمتفرّجين، تتلقى كراسي المقاهي المحيطة أجسادهم، ويتولّون الحديث والتعليق، وكميّة هائلة من المتحرّكين في الساحة، يتضمّنون باعة متجولين، ومتسوّلين، ومجانين، وسيّاح، وحواة، وعاهرات، وقارئات طالع، ومؤدّين، وحكّائين، وشعراء، ونقّاشات (واشمات الحنّاء)، تحيطهم جميعًا هالةٌ ترفعّهم نسبيًّا عن غيرهم من التجمّعات الغوغائيّة: الهالة المشتقة من جوارهم لجامع الكتبيّة؛ ومن اسم الساحة العتيق وتاريخها العميق الممتد إلى القرن الخامس الهجري؛ ومن اعتراف مضمر، وآخر معلن، بالقيمة الكبيرة لهذا التمازج الفوضويّ الخلاق، الذي يتمثّل بإيراد الساحة بما فيها في قائمة اليونسكو التمثيليّة للتراث الثقافي غير الماديّ للبشريّة.
تستفيد كثير من القصص المغربيّة من هاتين الخاصّيتين: السحريّة، والسّاحة، وتستعين بهما، خصوصًا لدى الكتّاب الأحدث، لتقترب من، أو توظّف معها، شكل الحكايات المتوالدة (كما في ألف ليلة وليلة) أو الخرافية (على نسق إيتالو كالفينو) أو لتستعين بعناصر ماوراء-نصيّة (على نسق خورخي لويس بورخيس)، لكن هذه الاستعانة داخليّة (intrinsic)، جوانيّة، تنبثق من داخل بوتقة التشكّل الثقافيّ والتاريخيّ نفسه للكاتب، ولسياق الكتابة، وللسياق الثقافي الذي أَنتجهما، أو أُنتجا فيه، وهذا السّياق بالغ التنوّع والثراء: البوادي والجبال والسّاحل، المدن المفتوحة على البحر والمدن المغلقة في الداخل، العرب والأمازيغ والأفارقة، السيّاح والمتطفّلون وشذّاذ الآفاق، المسلمون والمسيحيّون واليهود (سواءً منهم اليهود الأصيلون في المنطقة عربًا وأمازيغ، أو أؤلئك الذين نزحوا إلى المغرب من شبه الجزيرة الأيبرية إثر الاضطهاد الطويل الذي أوقعه عليهم الأوروبيّون خلال الفترة المعروفة بـ»محاكم التفتيش»، وصاروا جزءًا أصيلًا من المغرب)، وفوق كلّ ذلك، امتدادت أندلسيّة، وآثار استعماريّة فرنسيّة (حاضرةٌ بشكلٍ واضح في التّعليم واللّغة والاقتصاد) وإسبانيّة (حاضرة ماديًّا في جيبي سبتة ومليلية المحتلّين).
قصص هذا الملف
فى هذا الملف، جهدتُ، كسابقيه، أن يكون ممثّلًا (قدر الإمكان) لأشكال الكتابة المتعدّدة، وأجيال الكتّاب، وأجناسهم، لكنّه طبعًا، وككلّ الملفّات السابقة، جهدٌ محكوم بالفشل من ناحية الشّمول، لدواعي محدوديّة المساحة المتاحة للنشر، والموارد المتاحة للترجمة، لذا يمكن النظر إلى قصص الملف باعتبارها عيّنة دالة ينقصها أن تكتمل، لكنّها دالة على أيّ حال.
في قصّة «السّابع» لمحمد زفزاف، ونص «سراويل المدينة» لعبد اللطيف الإدريسي، نقع على الملمحين المذكورين المتعلّقين بالقصّة المغربية متداخلين معًا. وإن كانت أحداث نص الإدريسيّ، الذي أعتبر كتابته المتمثّلة فيها نموذجًا بديعًا وفريدًا وخلاقًا على توظيف شكل «الساحة» الكتابيّ، تقع في ساحةٍ في طنجة، وتشتبك فيها أحاديثٌ وقصصٌ وأصوات، وسيّاحٌ وأولاد بلدٍ وأفارقةٌ يريدون عبور المتوسّط، وشذراتٌ من أحاديث بالعربية الدّارجة والفرنسية؛ فإن الساحة التي تقع فيها أحداث قصّة زفزاف هي منزل، تجتمع فيه نساء القرية للاحتفال بمرور أسبوع على ولادة ابن لإحداهنّ، في حفل تحييه فرقة من الرّجال العميان.
أحمد بوزفور (أحد روّاد تجديد القصّة المغربيّة القصيرة) يمتح من نفس معين قصة زفزاف، أجواء القريّة ومجريات الحياة البسيطة-المعقّدة فيها، لكن إن كان زفزاف قد طعّم نصّه الضاغط ببعض السخرية السوداء المستبطنة في صيرورة الأحداث، تاركًا إيّانا أمام نهاية محيّرة وخاتمة ملتبسة، فإن بوزفور في «الأعرج يتزوّج» يصعّد الكابوس إلى نهايته، ويستخدم من أجل ذلك أسلوبًا تقنيًّا يخدمه تمامًا لهذا الغرض، وهو تقطيع القصة إلى مجموعة داخلية مترابطة ومتصاعدة من القصص الأصغر التي يحمل كلّ منها عنوانًا خاصًّا، وينهي قصّته بفاجعةٍ وإحالةٍ تعيد بطلتها إلى دائرة المجذوبين أو أصحاب الرؤى الداخليّة الذين يتحوّلون (بعد فترةٍ قد تطول أو تقصر) إلى أصحاب كرامات، إلى أشخاص ذوي قدرات خارقة بعد أن مروا بتجارب خارقة لا يقدر عليها بشر عاديّون، وهو ما يحدث تمامًا في قصّة «يد جنّة» للطيفة لبصير، التي تجمع (في توليفة فريدة) مقاربةً تراثيّةً ونسويّةً في آنٍ معًا، ونكاد نجزم من خلال نصّها أن مرزوقة (بطلة قصة بوزفور)، ستلاقي مصير جنّة (بطلة قصة لبصير) المبجّل نفسه، بعد حين.
تأخذنا قصتا عبد العزيز الراشدي (المجتمعتان تحت عنوان واحد هو «وجع الرمال») إلى الصّحراء وعوالمها، لكن، تظهر لنا فيها أيضًا أطياف الفهم الرمزيّ، الإشاريّ، السحريّ، لمجريات العالم وعناصره. ففي «اللّسعة»، يأخذ ظهور العقرب ورحلة البحث عنه أبعادًا أسطوريّة، فيما تقودنا أطياف الناسك المتوحّد، المكتفي بذاته، الباحث عن الإجابة، في القصة التي تحمل عنوانًا دالًّا: «رحلة البدوي»، إلى رحلة المعرفة، رحلة صوفيّة بمعنىً ما في عالم لم تعد تعنيه هذه الرّحلات، عالم مشغول بصخب يجول في خلفيّة الصمت المنشود، يعكّر الصمت المنشود، ويخرقه عند نهايةٍ نعرف نحن فيها ما لن يعرفه الباحث؛ رحلة البحث هذه هي ثيمة تشتغل عليها بدورها، بتقنيّات مختلفة، يأخذنا عبد المجيد الهوّاس، في قصّته «يوم حار»، في رحلة معرفة أخرى، تشتبك فيها عدّة تقنيّات سرديّة لتعبّر عن تداخل مصائر أناس تاهت بهم سبل الحياة ليجدوا أنفسهم على شاطئ، فيما المدينة، وأحداثها، وضجيجها، قائمةٌ ما تزال في الخلفيّة، متصلة -بصريًّا- مع الشاطئ، مفصولةٌ –مصيريًّا- عنه، وكأننا بين عالمين ننتقل بينهما كالانتقال بين الاستيقاظ والنوم، بين الصحو والغيبوبة، بين الشهادة والغيب.
نسويّة داخليّة: «الشرق» كما هو، لا كما هو في الصور الاستشراقيّة
جزء من اشكاليّات الاستشراق، والمنظورات الاستعماريّة تجاه المستعمَرين، هي إسقاط إكزوتيكيّة وغيريّة جوهريّة عليهم تستدعي تبرير استعمارهم وإدخالهم –عنوة- في «الحداثة»، أي بعبارات أكثر وضوحًا: إدراجهم بالقوّة في نسق الاستغلال الرأسمالي وأشكاله التنظيميّة، في السوق وآلياته واللامساواة البنيوية الناتجة عنها. من خلال ذلك التاريخ وتلك العلاقات، يتشكّل المخيال الاستشراقيّ، ويتشكّل «الغرب» نفسه كمقابلٍ موضوعيّ لـ»الشرق» الغارق في التخلّف والأساطير والحريم والجواري والعبيد والجنّ والخوارق؛ شرقٌ رجاله أنذال شبقون، ونساؤه للمتعة؛ شرق يحكمه طاغيةٌ ملتحٍ إلى جواره سيّاف يقطع الرؤوس.
طبعًا ثمّة عناصر من كلّ ما ورد في «الشّرق»، لكنها ليست مقصورة عليه دونًا عن العالم، وليست جوهرانيّة فيه لا يمكن فهمه إلا من خلالها، وليست خارجةً عن سياق تاريخها الاقتصاديّ والاجتماعي والتاريخي والاستعماريّ، وهذا الأخير يأخذنا ثانية إلى حيث يريد «الغرب» (بعد أن اخترع نفسه كمقابل «متحضّر» لـ»شرق» همجيّ مُتخيّل) أن يُعتّم على تاريخ الاستعمار الأوروبيّ الدمويّ حقًّا في الأمريكتين، وفي الهند، وإفريقيا، والمنطقة العربيّة، والمستمرّ إلى اليوم في فلسطين. تاريخ يريد أن يغطّي باستيهاماته الاستشراقية على قاطعي رؤوس فعليين، أعمق أثرًا، وأكثر وقعًا، ارتكبوا مجازرهم في المغرب، والجزائر، والكونجو، وناميبيا، ومساحات جغرافيّة وتاريخيّة كثيرة وصلت إليها يد «العالم المتمدّن» عبر العصور.
في هذه القصص، ستجدون عناصر «شرقٍ» ما، نعم صحيح، لكنه شرقٌ منزوعٌ منه الاستشراق، «شرقٌ» مكتوب من الدّاخل، من العمق، غير مرسوم بريشة الاستيهام أو بقلم استجداء القبول، شرق غير عابئ بأن يُثير أو يَكشف أو يُفهِّم، وغير عابئ بأن يُعترف به، هو هكذا بكل تناقضاته، واعٍ لها، ويتحرّك فيها، ولا ينظر بإعجابٍ إلى مخلّص قادم من وراء البحار، إلى «إله أبيض» (كما في فيلم «فيتزكارالدو« لفيرنر هيرتزوج عن الأمازون)، فالـ»مخلّص» (كما سنجد في هذه القصص)، إن ظهر، هو عابر، هامشيّ، لا يعرف، ولن يعرف، سوى القشور (كما في «سراويل المدينة» مثلًا)، ولن يرى إلا استيهامته الخاصة التي لن تؤدّي إلا إلى ما آل إليه البدويّ في نهاية رحلته (في «رحلة البدويّ»)، أو أنّه، مسلّح بمعارفه الأكاديميّة «الغربيّة»، سيظل عاجزًا عن الفهم العميق، مُفتَعَلًا، ونافرًا (كما في «يد جنّة»).
وعلى النقيض من صور الاستشراق المسبقة، سنرى في أكثر هذه القصص نساء حاضرات، فاعلات، جارحات، يأخذن المبادرة، يتلقّين اللكمات ويوجّهنها، وينتفضن ويغضبن ويسايرن ويفضحن ويوبّخن أنفسهنّ ويوبّخن مجتمعهن، ويفاوضن، ويضعفن، وأحيانًا يستسلمن. ككلّ مجتمع، تترواح الأشياء وتتحرّك ولا تبقى ثابتة على مكانةٍ أو حال؛ وككلّ المجتمعات فأطر القمع شاملة، متعدّدة المستويات (نعم) ومتفاوتة التأثير (نعم) لكنّها شاملة، ولا يمكن أن تُفهم من خلال بعثرة عناصرها وفصلها عن بعضها، وفصلها عن سياقها التاريخيّ من جهة، وعن علاقات القوّة في العالم المعاصر من جهة أخرى. النساء هنا، في هذه القصص، لا يحتجن إلى من ينطق باسمهنّ أو يبرّر أفعالهنّ أو يفسّر تصرفاتهنّ أو تصرفات المجتمع تجاههنّ. هنا سنجد الديناميكيّات الفاعلة، الداخليّة، in action، دون ندب أو استجداء للتعاطف وبيع للمظلوميّة لمركز أوروبي-أميركيّ يرفع (كلاميًّا) شعار المساواة الشكليّة للنساء، ويُسقط (فعليًّا) مساواة البشر. هنا (في هذه القصص، التي كتب بعضها رجال) سنجد ملامح نسويّة داخليّة حقيقيّة، مقابل النسويّة الاستشراقيّة الشكليّة الاستعراضيّة التي تحفل بها كثير من الكتابات المنتشرة المترجمة عن العربيّة إلى الإنجليزيّة، تحديدًا لأن بعض من كتبها كان بكتب وعينه على «الغرب»، أن يقبل فيه وأن يُترجم إليه، وهذه النسويّة الداخليّة ملمح ثالث قد لا أستطيع تعميمه على الكتابة الأدبية في المغرب، لكن يمكن ملاحظته على أكثر قصص هذا الملف.
شكر وتقدير
بقي أن أشكر من كان لجهودهم أثر كبير في ظهور هذا الملف إلى النّور: مترجمي هذا الملف إلى الإنجليزيّة وهم: أليس جوثري، وناريمان يوسف، ونشوى جوانلوك على جهودهم المتميّزة؛ متحف هنديّة للفنون في الأردن، والقيّمة عليه حياة هنديّة، على توفيرهم الأعمال الفنيّة المغربيّة المرافقة لهذا الملفّ، وهي جميعها من المجموعة الخاصّة للمتحف؛ جينفر آكر رئيسة تحرير «ذي كومون» وعلاء عبد الهادي رئيس تحرير «أخبار الأدب» على إفساحهما المجال لمثل هذا الملفّ الذي يظهر (بلغتين مختلفتين) على ضفّتي الأطلسي، بالتزامن.
هذا الملفّ هو الرابع من نوعه، سبقه ملفّ عن القصة في السّودان عام 2020، وآخر عن القصّة في سوريّة عام 2019، وثالث عن القصّة في الأردن عام 2018، وستستمرّ هذه الملفّات سنويًّا لتتناول نماذج من الفن القصصيّ في كل قُطرٍ عربيّ في قادم الأيام على ما آمل، ويمكن للمتمّين الوصول إلى الملفّات المترجمة كلّها، وأعداد المجلة جميعها، الكترونيًّا، من خلال هذا الرابط:
https://www.thecommononline.org/issues.