ابداعات عربيه

«شرقٌ» خالٍ من الاستشراق: السحريّة، والسّاحة والمرأة فى قصص المغرب القصيرة

أحمد بوزفور
أحمد بوزفور

كتب :هشام‭ ‬البستاني

لطالما‭ ‬ارتبط‭ ‬المغرب‭ ‬في‭ ‬المخيال‭ ‬الشعبيّ‭ ‬العربيّ‭ ‬بأعمال‭ ‬السحر‭ ‬والشعوذة‭ ‬وفكّ‭ ‬الرّصد‭ ‬وإخراج‭ ‬الجنّ‭ ‬من‭ ‬الجسد،‭ ‬حتى‭ ‬باتت‭ ‬صفّة‭ ‬‮«‬المغربيّ‮»‬‭ ‬مؤهّلًا‭ ‬إضافيًّا‭ ‬يدّعيه‭ ‬المشتغلون‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الموازي،‭ ‬ويضيفونه‭ ‬إلى‭ ‬أسمائهم،‭ ‬وبات‭ ‬استدعاء‭ ‬‮«‬شيخٍ‭ ‬من‭ ‬المغرب‮»‬‭ ‬لتمكين‭ ‬المنقّبين‭ ‬عن‭ ‬الكنوز‭ ‬الأثرية‭ ‬من‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬كنز‭ ‬مرصود،‭ ‬يحرسه‭ ‬ثعبان‭ ‬مثلًا،‭ ‬أمرًا‭ ‬تسمعه‭ ‬عرضًا‭ ‬بين‭ ‬حينٍ‭ ‬وآخر‭.

الصوفيّة‭ ‬وتأثيراتها‭ ‬على‭ ‬الأدب

لا‭ ‬أعرف‭ ‬سببًا‭ ‬قاطعًا‭ ‬لهذا‭ ‬الارتباط،‭ ‬ربّما‭ ‬هو‭ ‬بعد‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬محور‭ ‬المنطقة‭ ‬العربيّة‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬المشرق،‭ ‬وبين‭ ‬امتداته‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬تغرب‭ ‬الشمس‭ ‬عن‭ ‬متّحدّثي‭ ‬العربيّة‭ ‬عند‭ ‬المحيط‭ ‬الأطلسيّ،‭ ‬إذ‭ ‬يؤدّي‭ ‬هذا‭ ‬البعد‭ ‬إلى‭ ‬تشكيل‭ ‬خيالات‭ ‬تتعلّق‭ ‬بالغموض،‭ ‬والإكزوتيكيّة،‭ ‬وأحيانًا‭: ‬الخوف؛‭ ‬وربّما‭ ‬يكون‭ ‬السبّب‭ ‬تجذّر‭ ‬الطرق‭ ‬الصوفية‭ ‬بأشكالها‭ ‬وأنواعها‭ ‬المختلفة‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬وما‭ ‬يرتبط‭ ‬بها،‭ ‬أو‭ ‬ببعضها،‭ ‬من‭ ‬روحانيّات‭ ‬و«إشراقات‮»‬‭ ‬و«كرامات‮»‬‭ ‬و«رؤى‮»‬‭ ‬و«كشوفات‮»‬‭ ‬و«تجليّات‮»‬‭ ‬و«مشاهدات‮»‬‭ ‬قد‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬‮«‬الحلول‭ ‬في‭ ‬الله‮»‬‭ ‬و«معرفة‭ ‬الغيب‮»‬‭ ‬والتأثير‭ ‬في‭ ‬مجريات‭ ‬العالم،‭ ‬يدعم‭ ‬هذا‭ ‬التفسير‭ ‬أن‭ ‬طرقًا‭ ‬صوفيّة‭ ‬مؤثرة‭ (‬على‭ ‬رأسها‭ ‬الطريقة‭ ‬الشاذليّة‭)‬،‭ ‬وصوفيّون‭ ‬معروفون‭ (‬أهمّهم‭ ‬أحمد‭ ‬البدوي،‭ ‬أحد‭ ‬أقطاب‭ ‬الصوفية‭ ‬الأربعة‭ ‬الكبار‭)‬،‭ ‬أتوا‭ ‬من‭ ‬المغرب‭. ‬ولا‭ ‬ننسى‭ ‬أن‭ ‬سبل‭ ‬الاتصال‭ ‬المباشر‭ ‬قديمًا‭ ‬كانت‭ ‬ترتبط‭ ‬بمواسم‭ ‬الحج‭ ‬السنويّ‭ ‬إلى‭ ‬مكّة،‭ ‬وربّما‭ ‬كان‭ ‬يُنظر‭ ‬إلى‭ ‬هؤلاء‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬المغرب،‭ ‬قاطعين‭ ‬المسافات‭ ‬الطويلة،‭ ‬والمخاطر‭ ‬الكثيرة،‭ ‬والجغرافيّات‭ ‬المتعدّدة،‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬الكعبة‭ ‬والعودة‭ ‬منها،‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الإعجاب‭ ‬المشوب‭ ‬بالرّهبة،‭ ‬والتقدير‭ ‬المطعّم‭ ‬بالهيبة،‭ ‬وفهمٍ‭ ‬يدلّ‭ ‬على‭ ‬قدراتٍ‭ ‬خارقة‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬يملكها‭ ‬هؤلاء‭ ‬تُعينهم‭ ‬على‭ ‬رحلتهم‭ ‬الصّعبة‭.‬

تبرز‭ ‬هذه‭ ‬الرّوح‭ ‬السحريّة‭ ‬بأشكالٍ‭ ‬متعدّدةٍ‭ ‬داخل‭ ‬المدوّنة‭ ‬الأدبيّة‭ ‬المغربيّة،‭ ‬لا‭ ‬سيّما‭ ‬ذلك‭ ‬الحضور‭ ‬اللافت‭ ‬للأولياء،‭ ‬والرّائين،‭ ‬وأصحاب‭ ‬الخرق،‭ ‬والمجاذيب،‭ ‬وأصحاب‭ ‬الكرامات،‭ ‬وأولئك‭ ‬الذين‭ ‬يُعوَّض‭ ‬نقصهم‭ ‬الجسديّ‭ ‬بصفات‭ ‬روحيّة‭ ‬تسبغ‭ ‬عليهم‭ ‬هالة‭ ‬من‭ ‬الجلال‭ ‬والقدسيّة؛‭ ‬أو‭ ‬بحضور‭ ‬هذه‭ ‬الصفات‭ ‬لدى‭ ‬شخصيّات‭ ‬القصّة‭ ‬نفسها،‭ ‬أو‭ ‬تأثّرهم‭ ‬بحامليها‭.‬

الواقعيّة‭ ‬السحريّة،‭ ‬والكتابة‭ ‬المغربيّة‭ ‬السّاحرة

 

 

 

محمد‭ ‬زفزاف

يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬افتراق‭ ‬هذه‭ ‬الكتابة‭ ‬عمّا‭ ‬يسمى‭ ‬بمدرسة‭ ‬الواقعيّة‭ ‬السحريّة،‭ ‬ففي‭ ‬حين‭ ‬تُدرِج‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬–عمومًا‭- ‬عناصر‭ ‬‮«‬سحريّة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬خارقة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مألوفة‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬قد‭ ‬توصف‭ ‬خلاف‭ ‬ذلك‭ ‬بأنّها‭ ‬‮«‬واقعيّة‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬جزءٍ‭ ‬وازنٍ‭ ‬منها‭ ‬لأكون‭ ‬أكثر‭ ‬دقة،‭ ‬تمتح‭ ‬من‭ ‬واقعها‭ ‬السحريّ‭ ‬وتتأثر‭ ‬به‭. ‬أي‭: ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬أن‭ ‬الاتّجاهين‭ ‬متعاكسين،‭ ‬فبينما‭ ‬تسحب‭ ‬الواقعيّة‭ ‬السحريّة‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬سحريّة،‭ ‬أو‭ ‬تضفي‭ ‬عليه‭ ‬عناصر‭ ‬سحريّة،‭ ‬تسحب‭ ‬الكتابة‭ ‬المغربية‭ ‬كتابتها‭ ‬من‭ ‬واقعٍ‭ ‬سحريّ،‭ ‬أو‭ (‬لنبتعد‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭ ‬عن‭ ‬الإكزوتيكيّة‭)‬،‭ ‬من‭ ‬واقعٍ‭ ‬ساحر،‭ ‬تؤثّر‭ ‬وتفعل‭ ‬فيه‭ ‬عناصر‭ ‬مشتقّة‭ ‬من‭ ‬فهم‭ ‬متعدّد‭ ‬ومتداخل‭ ‬وعضويّ،‭ ‬يجمع‭ (‬دون‭ ‬حدود‭ ‬واضحة‭ ‬وحاسمة‭) ‬بين‭ ‬العالمين‭: ‬الماديّ‭ ‬والفكريّ‭ (‬الروحيّ‭).‬

تمتدّ‭ ‬هذه‭ ‬السّحريّة‭ ‬الرؤيويّة‭ ‬إلى‭ ‬أعمال‭ ‬غير‭ ‬المغاربة‭ ‬إن‭ ‬هم‭ ‬كتبوا‭ ‬عنها‭ ‬أو‭ ‬فيها،‭ ‬ولعلّ‭ ‬النموذج‭ ‬الأبرز‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬محمود‭ ‬الريماوي‭: ‬قاصّ‭ ‬مقيمٌ‭ ‬في‭ ‬الأردن‭ ‬لكنه‭ ‬كثير‭ ‬الزيارات‭ ‬إلى‭ ‬المغرب،‭ ‬ويقيم‭ ‬فيه‭ ‬لفترات‭ ‬قصيرة‭. ‬خلال‭ ‬وبعد‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الإقامات،‭ ‬كتب‭ ‬مجموعة‭ ‬قصصية‭ ‬بديعة‭ ‬تحمل‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬عمّ‭ ‬تبحث‭ ‬في‭ ‬مراكش‮»‬‭ (‬2015‭)‬،‭ ‬تدور‭ ‬أحداث‭ ‬معظم‭ ‬قصصها‭ ‬في‭ ‬المغرب؛‭ ‬وخلافًا‭ ‬لكلّ‭ ‬مجموعاته‭ ‬السّابقة‭ ‬لها‭ ‬واللاحقة‭ ‬عليها،‭ ‬يمكن‭ ‬التقاط‭ ‬آثار‭ ‬هذا‭ ‬النسق‭ ‬السحريّ‭ ‬المغربيّ‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬المذكور،‭ ‬ويمكن‭ ‬التعرّف‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬ملامح‭ ‬هذا‭ ‬النسق‭ ‬في‭ ‬قصّته‭: ‬‮«‬تلك‭ ‬الحافلة‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬وقائعها‭ ‬بين‭ ‬مرّاكش‭ ‬وفرنسا،‭ ‬والمنشورة‭ ‬ضمن‭ ‬ملف‭ ‬‮«‬قصص‭ ‬من‭ ‬الأردن‮»‬‭  ‬الملحق‭ ‬بعدد‭ ‬1292،‭ ‬الأحد‭ ‬29‭ ‬إبريل‭ ‬2018،‭ ‬من‭ ‬أخبار‭ ‬الأدب،‭ ‬وبترجمة‭ ‬إلى‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الملف‭ ‬المنشور‭ ‬بالتزامن‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬15،‭ ‬ربيع‭ ‬2018،‭ ‬من‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬ذي‭ ‬كومون‮»‬‭. ‬

كما‭ ‬يمكن‭ ‬التقاط‭ ‬عناصر‭ ‬هذا‭ ‬النسق‭ ‬في‭ ‬قصّتين‭ ‬من‭ ‬المغرب‭ ‬اخترتهما‭ ‬عام‭ ‬2016‭ ‬للعدد‭ ‬الخاص‭ ‬من‭ ‬‮«‬ذي‭ ‬كومون‮»‬،‭ ‬المسمى‭ ‬‮«‬تجديد‮»‬‭ (‬عدد‭ ‬11،‭ ‬ربيع‭ ‬2016‭)‬،‭ ‬والذي‭ ‬تم‭ ‬تخصيصه‭ ‬بالكامل‭ ‬للقصص‭ ‬العربيّة‭ ‬المترجمة‮»‬،‭ ‬وهاتان‭ ‬القصتان‭ ‬هما‭ ‬‮«‬مينوش‮»‬‭ ‬لأنيس‭ ‬الرافعي،‭ ‬و«بومة‭ ‬روسكيلده‮»‬‭ ‬لإسماعيل‭ ‬غزالي،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬أحداث‭ ‬الأخيرة‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬دينماركيّة‭. ‬وطبعًا،‭ ‬يمكن‭ ‬التقاط‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬في‭ ‬القصص‭ ‬المختارة‭ ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬الملف،‭ ‬وسنأتي‭ ‬على‭ ‬استعراضٍ‭ ‬لها‭ ‬بعد‭ ‬قليل‭.  ‬

القصّة‭ ‬كضجيج‭ ‬حيويّ‭: ‬حضور‭ ‬الساحة‭ ‬موضوعًا‭ ‬وشكلًا‭ كتابيًّا

خاصيّة‭ ‬أخرى‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الكتابات‭ ‬المغربيّة،‭ ‬هي‭ ‬تأثير‭ ‬السّاحات‭ ‬العامة‭ ‬ومقاهيها‭ ‬وما‭ ‬يدور‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬موضوع‭ ‬الكتابة،‭ ‬والأهم‭: ‬على‭ ‬شكلها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سأسميّه‭: ‬‮«‬شكل‭ ‬الساحة‮»‬‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭. ‬سنرى‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬غير‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬هذا‭ ‬الملف،‭ ‬وفي‭ ‬أدب‭ ‬المغرب‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬متمثّلًا‭ ‬بوجود‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬اللّغط‭ ‬والكلام‭ ‬المتداخل‭ ‬والحوارات‭ ‬الصاخبة‭ ‬في‭ ‬جوّ‭ ‬القطعة‭ ‬الأدبيّة،‭ ‬وأحيانًا‭: ‬في‭ ‬مركزها،‭ ‬إذ‭ ‬تدار‭ ‬عناصر‭ ‬الكتابة‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬بالتتالي‭ ‬السرديّ،‭ ‬بل‭ ‬بالمقاطع‭ ‬المتداخلة،‭ ‬والروائح،‭ ‬والأصوات،‭ ‬والحركة‭ ‬داخلةً‭ ‬وخارجةً‭ ‬من‭ ‬النصّ،‭ ‬ومتفاعلةً‭ ‬معه،‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬مقدّمة‭ ‬الكتابة‭ ‬حينًا،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬خلفيتها‭. ‬

ربّما‭ ‬استلّ‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬وثقافة‭ ‬المقاهي‭ ‬والسّاحات‭ ‬المنتشرة‭ ‬بكثافة‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬المغربيّة،‭ ‬ومن‭ ‬كونها‭ ‬فضاءات‭ ‬متداخلة‭ ‬للاشتباك‭ ‬والتفاعل‭ ‬الاجتماعيّين،‭ ‬وربما،‭ ‬وبشكل‭ ‬أخصّ،‭ ‬من‭ ‬مرّاكش،‭ ‬وقلبها‭ ‬النابض‭: ‬ساحة‭ ‬جامع‭ ‬الفْنَا‭ (‬الفناء‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬يكفينا‭ ‬اسمها‭ ‬الدالّ‭ ‬المتعدد‭ ‬المعاني،‭ ‬المارّ‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬والاندثار‭ ‬على‭ ‬جهةٍ‭ ‬من‭ ‬المعنى،‭ ‬إلى‭ ‬الذوبان‭ ‬في‭ ‬الذات‭ ‬الإلهيّة‭ ‬على‭ ‬الجهة‭ ‬الاخرى‭ (‬إن‭ ‬قُرئت‭ ‬الكلمة‭ ‬بفتح‭ ‬الفاء‭)‬،‭ ‬مرورًا‭ ‬بالمعنى‭ ‬القريب‭ ‬من‭ ‬‮«‬ساحة‭ ‬الدار‮»‬‭ ‬أو‭ ‬ساحة‭ ‬الجامع،‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬سكّان‭ ‬المدينة‭ ‬وأهلها‭ (‬إن‭ ‬قُرئت‭ ‬الكلمة‭ ‬بكسر‭ ‬الفاء‭)‬،‭ ‬عناء‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الشرح‭. ‬‭ ‬

ساحة‭ ‬جامع‭ ‬الفْنَا‭ ‬هذه،‭ ‬كما‭ ‬توجد‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬وكما‭ ‬تصوّرها‭ ‬كتابات‭ ‬المغاربة‭ ‬وغيرهم،‭ ‬هي‭ ‬كرنفالٌ‭ ‬صاخبٌ‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬والأصوات‭ ‬والروائح،‭ ‬تذكّرنا‭ ‬بأجواء‭ ‬أفلام‭ ‬فيديريكو‭ ‬فيلّيني‭ ‬وحركتها‭ ‬وضجيجها،‭ ‬لكنّ‭ ‬الفرق‭ ‬هي‭ ‬أنّها‭ ‬أسبق،‭ ‬وأنّها‭ ‬حقيقيّة،‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬ودم،‭ ‬شخصيّاتها‭ ‬تتنوّع‭ ‬بين‭ ‬روّاد‭ ‬أشبه‭ ‬بالمتفرّجين،‭ ‬تتلقى‭ ‬كراسي‭ ‬المقاهي‭ ‬المحيطة‭ ‬أجسادهم،‭ ‬ويتولّون‭ ‬الحديث‭ ‬والتعليق،‭ ‬وكميّة‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬المتحرّكين‭ ‬في‭ ‬الساحة،‭ ‬يتضمّنون‭ ‬باعة‭ ‬متجولين،‭ ‬ومتسوّلين،‭ ‬ومجانين،‭ ‬وسيّاح،‭ ‬وحواة،‭ ‬وعاهرات،‭ ‬وقارئات‭ ‬طالع،‭ ‬ومؤدّين،‭ ‬وحكّائين،‭ ‬وشعراء،‭ ‬ونقّاشات‭ (‬واشمات‭ ‬الحنّاء‭)‬،‭ ‬تحيطهم‭ ‬جميعًا‭ ‬هالةٌ‭ ‬ترفعّهم‭ ‬نسبيًّا‭ ‬عن‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬التجمّعات‭ ‬الغوغائيّة‭: ‬الهالة‭ ‬المشتقة‭ ‬من‭ ‬جوارهم‭ ‬لجامع‭ ‬الكتبيّة؛‭ ‬ومن‭ ‬اسم‭ ‬الساحة‭ ‬العتيق‭ ‬وتاريخها‭ ‬العميق‭ ‬الممتد‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬الهجري؛‭ ‬ومن‭ ‬اعتراف‭ ‬مضمر،‭ ‬وآخر‭ ‬معلن،‭ ‬بالقيمة‭ ‬الكبيرة‭ ‬لهذا‭ ‬التمازج‭ ‬الفوضويّ‭ ‬الخلاق،‭ ‬الذي‭ ‬يتمثّل‭ ‬بإيراد‭ ‬الساحة‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬قائمة‭ ‬اليونسكو‭ ‬التمثيليّة‭ ‬للتراث‭ ‬الثقافي‭ ‬غير‭ ‬الماديّ‭ ‬للبشريّة‭.‬

تستفيد‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬المغربيّة‭ ‬من‭ ‬هاتين‭ ‬الخاصّيتين‭: ‬السحريّة،‭ ‬والسّاحة،‭ ‬وتستعين‭ ‬بهما،‭ ‬خصوصًا‭ ‬لدى‭ ‬الكتّاب‭ ‬الأحدث،‭ ‬لتقترب‭ ‬من،‭ ‬أو‭ ‬توظّف‭ ‬معها،‭ ‬شكل‭ ‬الحكايات‭ ‬المتوالدة‭ (‬كما‭ ‬في‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭) ‬أو‭ ‬الخرافية‭ (‬على‭ ‬نسق‭ ‬إيتالو‭ ‬كالفينو‭) ‬أو‭ ‬لتستعين‭ ‬بعناصر‭ ‬ماوراء‭-‬نصيّة‭ (‬على‭ ‬نسق‭ ‬خورخي‭ ‬لويس‭ ‬بورخيس‭)‬،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬الاستعانة‭ ‬داخليّة‭ (‬intrinsic‭)‬،‭ ‬جوانيّة،‭ ‬تنبثق‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬بوتقة‭ ‬التشكّل‭ ‬الثقافيّ‭ ‬والتاريخيّ‭ ‬نفسه‭ ‬للكاتب،‭ ‬ولسياق‭ ‬الكتابة،‭ ‬وللسياق‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬أَنتجهما،‭ ‬أو‭ ‬أُنتجا‭ ‬فيه،‭ ‬وهذا‭ ‬السّياق‭ ‬بالغ‭ ‬التنوّع‭ ‬والثراء‭: ‬البوادي‭ ‬والجبال‭ ‬والسّاحل،‭ ‬المدن‭ ‬المفتوحة‭ ‬على‭ ‬البحر‭ ‬والمدن‭ ‬المغلقة‭ ‬في‭ ‬الداخل،‭ ‬العرب‭ ‬والأمازيغ‭ ‬والأفارقة،‭ ‬السيّاح‭ ‬والمتطفّلون‭ ‬وشذّاذ‭ ‬الآفاق،‭ ‬المسلمون‭ ‬والمسيحيّون‭ ‬واليهود‭ (‬سواءً‭ ‬منهم‭ ‬اليهود‭ ‬الأصيلون‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬عربًا‭ ‬وأمازيغ،‭ ‬أو‭ ‬أؤلئك‭ ‬الذين‭ ‬نزحوا‭ ‬إلى‭ ‬المغرب‭ ‬من‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬الأيبرية‭ ‬إثر‭ ‬الاضطهاد‭ ‬الطويل‭ ‬الذي‭ ‬أوقعه‭ ‬عليهم‭ ‬الأوروبيّون‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬المعروفة‭ ‬بـ»محاكم‭ ‬التفتيش‮»‬،‭ ‬وصاروا‭ ‬جزءًا‭ ‬أصيلًا‭ ‬من‭ ‬المغرب‭)‬،‭ ‬وفوق‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك،‭ ‬امتدادت‭ ‬أندلسيّة،‭ ‬وآثار‭ ‬استعماريّة‭ ‬فرنسيّة‭ (‬حاضرةٌ‭ ‬بشكلٍ‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬التّعليم‭ ‬واللّغة‭ ‬والاقتصاد‭) ‬وإسبانيّة‭ (‬حاضرة‭ ‬ماديًّا‭ ‬في‭ ‬جيبي‭ ‬سبتة‭ ‬ومليلية‭ ‬المحتلّين‭). ‬

قصص‭ ‬هذا‭ ‬الملف

فى‭ ‬هذا‭ ‬الملف،‭ ‬جهدتُ،‭ ‬كسابقيه،‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ممثّلًا‭ (‬قدر‭ ‬الإمكان‭) ‬لأشكال‭ ‬الكتابة‭ ‬المتعدّدة،‭ ‬وأجيال‭ ‬الكتّاب،‭ ‬وأجناسهم،‭ ‬لكنّه‭ ‬طبعًا،‭ ‬وككلّ‭ ‬الملفّات‭ ‬السابقة،‭ ‬جهدٌ‭ ‬محكوم‭ ‬بالفشل‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الشّمول،‭ ‬لدواعي‭ ‬محدوديّة‭ ‬المساحة‭ ‬المتاحة‭ ‬للنشر،‭ ‬والموارد‭ ‬المتاحة‭ ‬للترجمة،‭ ‬لذا‭ ‬يمكن‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬قصص‭ ‬الملف‭ ‬باعتبارها‭ ‬عيّنة‭ ‬دالة‭ ‬ينقصها‭ ‬أن‭ ‬تكتمل،‭ ‬لكنّها‭ ‬دالة‭ ‬على‭ ‬أيّ‭ ‬حال‭. ‬

في‭ ‬قصّة‭ ‬‮«‬السّابع‮»‬‭ ‬لمحمد‭ ‬زفزاف،‭ ‬ونص‭ ‬‮«‬سراويل‭ ‬المدينة‮»‬‭ ‬لعبد‭ ‬اللطيف‭ ‬الإدريسي،‭ ‬نقع‭ ‬على‭ ‬الملمحين‭ ‬المذكورين‭ ‬المتعلّقين‭ ‬بالقصّة‭ ‬المغربية‭ ‬متداخلين‭ ‬معًا‭. ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬أحداث‭ ‬نص‭ ‬الإدريسيّ،‭ ‬الذي‭ ‬أعتبر‭ ‬كتابته‭ ‬المتمثّلة‭ ‬فيها‭ ‬نموذجًا‭ ‬بديعًا‭ ‬وفريدًا‭ ‬وخلاقًا‭ ‬على‭ ‬توظيف‭ ‬شكل‭ ‬‮«‬الساحة‮»‬‭ ‬الكتابيّ،‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬ساحةٍ‭ ‬في‭ ‬طنجة،‭ ‬وتشتبك‭ ‬فيها‭ ‬أحاديثٌ‭ ‬وقصصٌ‭ ‬وأصوات،‭ ‬وسيّاحٌ‭ ‬وأولاد‭ ‬بلدٍ‭ ‬وأفارقةٌ‭ ‬يريدون‭ ‬عبور‭ ‬المتوسّط،‭ ‬وشذراتٌ‭ ‬من‭ ‬أحاديث‭ ‬بالعربية‭ ‬الدّارجة‭ ‬والفرنسية؛‭ ‬فإن‭ ‬الساحة‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬فيها‭ ‬أحداث‭ ‬قصّة‭ ‬زفزاف‭ ‬هي‭ ‬منزل،‭ ‬تجتمع‭ ‬فيه‭ ‬نساء‭ ‬القرية‭ ‬للاحتفال‭ ‬بمرور‭ ‬أسبوع‭ ‬على‭ ‬ولادة‭ ‬ابن‭ ‬لإحداهنّ،‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬تحييه‭ ‬فرقة‭ ‬من‭ ‬الرّجال‭ ‬العميان‭. ‬

أحمد‭ ‬بوزفور‭ (‬أحد‭ ‬روّاد‭ ‬تجديد‭ ‬القصّة‭ ‬المغربيّة‭ ‬القصيرة‭) ‬يمتح‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬معين‭ ‬قصة‭ ‬زفزاف،‭ ‬أجواء‭ ‬القريّة‭ ‬ومجريات‭ ‬الحياة‭ ‬البسيطة‭-‬المعقّدة‭ ‬فيها،‭ ‬لكن‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬زفزاف‭ ‬قد‭ ‬طعّم‭ ‬نصّه‭ ‬الضاغط‭ ‬ببعض‭ ‬السخرية‭ ‬السوداء‭ ‬المستبطنة‭ ‬في‭ ‬صيرورة‭ ‬الأحداث،‭ ‬تاركًا‭ ‬إيّانا‭ ‬أمام‭ ‬نهاية‭ ‬محيّرة‭ ‬وخاتمة‭ ‬ملتبسة،‭ ‬فإن‭ ‬بوزفور‭ ‬في‭ ‬‮«‬الأعرج‭ ‬يتزوّج‮»‬‭ ‬يصعّد‭ ‬الكابوس‭ ‬إلى‭ ‬نهايته،‭ ‬ويستخدم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬أسلوبًا‭ ‬تقنيًّا‭ ‬يخدمه‭ ‬تمامًا‭ ‬لهذا‭ ‬الغرض،‭ ‬وهو‭ ‬تقطيع‭ ‬القصة‭ ‬إلى‭ ‬مجموعة‭ ‬داخلية‭ ‬مترابطة‭ ‬ومتصاعدة‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬الأصغر‭ ‬التي‭ ‬يحمل‭ ‬كلّ‭ ‬منها‭ ‬عنوانًا‭ ‬خاصًّا،‭ ‬وينهي‭ ‬قصّته‭ ‬بفاجعةٍ‭ ‬وإحالةٍ‭ ‬تعيد‭ ‬بطلتها‭ ‬إلى‭ ‬دائرة‭ ‬المجذوبين‭ ‬أو‭ ‬أصحاب‭ ‬الرؤى‭ ‬الداخليّة‭ ‬الذين‭ ‬يتحوّلون‭ (‬بعد‭ ‬فترةٍ‭ ‬قد‭ ‬تطول‭ ‬أو‭ ‬تقصر‭) ‬إلى‭ ‬أصحاب‭ ‬كرامات،‭ ‬إلى‭ ‬أشخاص‭ ‬ذوي‭ ‬قدرات‭ ‬خارقة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬مروا‭ ‬بتجارب‭ ‬خارقة‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬عليها‭ ‬بشر‭ ‬عاديّون،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬تمامًا‭ ‬في‭ ‬قصّة‭ ‬‮«‬يد‭ ‬جنّة‮»‬‭ ‬للطيفة‭ ‬لبصير،‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ (‬في‭ ‬توليفة‭ ‬فريدة‭) ‬مقاربةً‭ ‬تراثيّةً‭ ‬ونسويّةً‭ ‬في‭ ‬آنٍ‭ ‬معًا،‭ ‬ونكاد‭ ‬نجزم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نصّها‭ ‬أن‭ ‬مرزوقة‭ (‬بطلة‭ ‬قصة‭ ‬بوزفور‭)‬،‭ ‬ستلاقي‭ ‬مصير‭ ‬جنّة‭ (‬بطلة‭ ‬قصة‭ ‬لبصير‭) ‬المبجّل‭ ‬نفسه،‭ ‬بعد‭ ‬حين‭.‬

تأخذنا‭ ‬قصتا‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الراشدي‭ (‬المجتمعتان‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬‮«‬وجع‭ ‬الرمال‮»‬‭) ‬إلى‭ ‬الصّحراء‭ ‬وعوالمها،‭ ‬لكن،‭ ‬تظهر‭ ‬لنا‭ ‬فيها‭ ‬أيضًا‭ ‬أطياف‭ ‬الفهم‭ ‬الرمزيّ،‭ ‬الإشاريّ،‭ ‬السحريّ،‭ ‬لمجريات‭ ‬العالم‭ ‬وعناصره‭. ‬ففي‭ ‬‮«‬اللّسعة‮»‬،‭ ‬يأخذ‭ ‬ظهور‭ ‬العقرب‭ ‬ورحلة‭ ‬البحث‭ ‬عنه‭ ‬أبعادًا‭ ‬أسطوريّة،‭ ‬فيما‭ ‬تقودنا‭ ‬أطياف‭ ‬الناسك‭ ‬المتوحّد،‭ ‬المكتفي‭ ‬بذاته،‭ ‬الباحث‭ ‬عن‭ ‬الإجابة،‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬عنوانًا‭ ‬دالًّا‭: ‬‮«‬رحلة‭ ‬البدوي‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬رحلة‭ ‬المعرفة،‭ ‬رحلة‭ ‬صوفيّة‭ ‬بمعنىً‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تعنيه‭ ‬هذه‭ ‬الرّحلات،‭ ‬عالم‭ ‬مشغول‭ ‬بصخب‭ ‬يجول‭ ‬في‭ ‬خلفيّة‭ ‬الصمت‭ ‬المنشود،‭ ‬يعكّر‭ ‬الصمت‭ ‬المنشود،‭ ‬ويخرقه‭ ‬عند‭ ‬نهايةٍ‭ ‬نعرف‭ ‬نحن‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬لن‭ ‬يعرفه‭ ‬الباحث؛‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬ثيمة‭ ‬تشتغل‭ ‬عليها‭ ‬بدورها،‭ ‬بتقنيّات‭ ‬مختلفة،‭ ‬يأخذنا‭ ‬عبد‭ ‬المجيد‭ ‬الهوّاس،‭ ‬في‭ ‬قصّته‭ ‬‮«‬يوم‭ ‬حار‮»‬،‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬معرفة‭ ‬أخرى،‭ ‬تشتبك‭ ‬فيها‭ ‬عدّة‭ ‬تقنيّات‭ ‬سرديّة‭ ‬لتعبّر‭ ‬عن‭ ‬تداخل‭ ‬مصائر‭ ‬أناس‭ ‬تاهت‭ ‬بهم‭ ‬سبل‭ ‬الحياة‭ ‬ليجدوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬على‭ ‬شاطئ،‭ ‬فيما‭ ‬المدينة،‭ ‬وأحداثها،‭ ‬وضجيجها،‭ ‬قائمةٌ‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬في‭ ‬الخلفيّة،‭ ‬متصلة‭ -‬بصريًّا‭- ‬مع‭ ‬الشاطئ،‭ ‬مفصولةٌ‭ ‬–مصيريًّا‭- ‬عنه،‭ ‬وكأننا‭ ‬بين‭ ‬عالمين‭ ‬ننتقل‭ ‬بينهما‭ ‬كالانتقال‭ ‬بين‭ ‬الاستيقاظ‭ ‬والنوم،‭ ‬بين‭ ‬الصحو‭ ‬والغيبوبة،‭ ‬بين‭ ‬الشهادة‭ ‬والغيب‭.‬

نسويّة‭ ‬داخليّة‭: ‬‮«‬الشرق‮»‬‭ ‬كما‭ ‬هو،‭ ‬لا‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الصور‭ ‬الاستشراقيّة

جزء‭ ‬من‭ ‬اشكاليّات‭ ‬الاستشراق،‭ ‬والمنظورات‭ ‬الاستعماريّة‭ ‬تجاه‭ ‬المستعمَرين،‭ ‬هي‭ ‬إسقاط‭ ‬إكزوتيكيّة‭ ‬وغيريّة‭ ‬جوهريّة‭ ‬عليهم‭ ‬تستدعي‭ ‬تبرير‭ ‬استعمارهم‭ ‬وإدخالهم‭ ‬–عنوة‭- ‬في‭ ‬‮«‬الحداثة‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬بعبارات‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحًا‭: ‬إدراجهم‭ ‬بالقوّة‭ ‬في‭ ‬نسق‭ ‬الاستغلال‭ ‬الرأسمالي‭ ‬وأشكاله‭ ‬التنظيميّة،‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬وآلياته‭ ‬واللامساواة‭ ‬البنيوية‭ ‬الناتجة‭ ‬عنها‭. ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ‭ ‬وتلك‭ ‬العلاقات،‭ ‬يتشكّل‭ ‬المخيال‭ ‬الاستشراقيّ،‭ ‬ويتشكّل‭ ‬‮«‬الغرب‮»‬‭ ‬نفسه‭ ‬كمقابلٍ‭ ‬موضوعيّ‭ ‬لـ»الشرق‮»‬‭ ‬الغارق‭ ‬في‭ ‬التخلّف‭ ‬والأساطير‭ ‬والحريم‭ ‬والجواري‭ ‬والعبيد‭ ‬والجنّ‭ ‬والخوارق؛‭ ‬شرقٌ‭ ‬رجاله‭ ‬أنذال‭ ‬شبقون،‭ ‬ونساؤه‭ ‬للمتعة؛‭ ‬شرق‭ ‬يحكمه‭ ‬طاغيةٌ‭ ‬ملتحٍ‭ ‬إلى‭ ‬جواره‭ ‬سيّاف‭ ‬يقطع‭ ‬الرؤوس‭. ‬

طبعًا‭ ‬ثمّة‭ ‬عناصر‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬‮«‬الشّرق‮»‬،‭ ‬لكنها‭ ‬ليست‭ ‬مقصورة‭ ‬عليه‭ ‬دونًا‭ ‬عن‭ ‬العالم،‭ ‬وليست‭ ‬جوهرانيّة‭ ‬فيه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فهمه‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلالها،‭ ‬وليست‭ ‬خارجةً‭ ‬عن‭ ‬سياق‭ ‬تاريخها‭ ‬الاقتصاديّ‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والتاريخي‭ ‬والاستعماريّ،‭ ‬وهذا‭ ‬الأخير‭ ‬يأخذنا‭ ‬ثانية‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬يريد‭ ‬‮«‬الغرب‮»‬‭ (‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اخترع‭ ‬نفسه‭ ‬كمقابل‭ ‬‮«‬متحضّر‮»‬‭ ‬لـ»شرق‮»‬‭ ‬همجيّ‭ ‬مُتخيّل‭) ‬أن‭ ‬يُعتّم‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬الاستعمار‭ ‬الأوروبيّ‭ ‬الدمويّ‭ ‬حقًّا‭ ‬في‭ ‬الأمريكتين،‭ ‬وفي‭ ‬الهند،‭ ‬وإفريقيا،‭ ‬والمنطقة‭ ‬العربيّة،‭ ‬والمستمرّ‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭. ‬تاريخ‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يغطّي‭ ‬باستيهاماته‭ ‬الاستشراقية‭ ‬على‭ ‬قاطعي‭ ‬رؤوس‭ ‬فعليين،‭ ‬أعمق‭ ‬أثرًا،‭ ‬وأكثر‭ ‬وقعًا،‭ ‬ارتكبوا‭ ‬مجازرهم‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬والجزائر،‭ ‬والكونجو،‭ ‬وناميبيا،‭ ‬ومساحات‭ ‬جغرافيّة‭ ‬وتاريخيّة‭ ‬كثيرة‭ ‬وصلت‭ ‬إليها‭ ‬يد‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬المتمدّن‮»‬‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭. ‬

في‭ ‬هذه‭ ‬القصص،‭ ‬ستجدون‭ ‬عناصر‭ ‬‮«‬شرقٍ‮»‬‭ ‬ما،‭ ‬نعم‭ ‬صحيح،‭ ‬لكنه‭ ‬شرقٌ‭ ‬منزوعٌ‭ ‬منه‭ ‬الاستشراق،‭ ‬‮«‬شرقٌ‮»‬‭ ‬مكتوب‭ ‬من‭ ‬الدّاخل،‭ ‬من‭ ‬العمق،‭ ‬غير‭ ‬مرسوم‭ ‬بريشة‭ ‬الاستيهام‭ ‬أو‭ ‬بقلم‭ ‬استجداء‭ ‬القبول،‭ ‬شرق‭ ‬غير‭ ‬عابئ‭ ‬بأن‭ ‬يُثير‭ ‬أو‭ ‬يَكشف‭ ‬أو‭ ‬يُفهِّم،‭ ‬وغير‭ ‬عابئ‭ ‬بأن‭ ‬يُعترف‭ ‬به،‭ ‬هو‭ ‬هكذا‭ ‬بكل‭ ‬تناقضاته،‭ ‬واعٍ‭ ‬لها،‭ ‬ويتحرّك‭ ‬فيها،‭ ‬ولا‭ ‬ينظر‭ ‬بإعجابٍ‭ ‬إلى‭ ‬مخلّص‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬البحار،‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬إله‭ ‬أبيض‮»‬‭ (‬كما‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬فيتزكارالدو‮«‬‭ ‬لفيرنر‭ ‬هيرتزوج‭ ‬عن‭ ‬الأمازون‭)‬،‭ ‬فالـ»مخلّص‮»‬‭ (‬كما‭ ‬سنجد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصص‭)‬،‭ ‬إن‭ ‬ظهر،‭ ‬هو‭ ‬عابر،‭ ‬هامشيّ،‭ ‬لا‭ ‬يعرف،‭ ‬ولن‭ ‬يعرف،‭ ‬سوى‭ ‬القشور‭ (‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬سراويل‭ ‬المدينة‮»‬‭ ‬مثلًا‭)‬،‭ ‬ولن‭ ‬يرى‭ ‬إلا‭ ‬استيهامته‭ ‬الخاصة‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬تؤدّي‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬آل‭ ‬إليه‭ ‬البدويّ‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬رحلته‭ (‬في‭ ‬‮«‬رحلة‭ ‬البدويّ‮»‬‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬أنّه،‭ ‬مسلّح‭ ‬بمعارفه‭ ‬الأكاديميّة‭ ‬‮«‬الغربيّة‮»‬،‭ ‬سيظل‭ ‬عاجزًا‭ ‬عن‭ ‬الفهم‭ ‬العميق،‭ ‬مُفتَعَلًا،‭ ‬ونافرًا‭ (‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬يد‭ ‬جنّة‮»‬‭). ‬

وعلى‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬الاستشراق‭ ‬المسبقة،‭ ‬سنرى‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬هذه‭ ‬القصص‭ ‬نساء‭ ‬حاضرات،‭ ‬فاعلات،‭ ‬جارحات،‭ ‬يأخذن‭ ‬المبادرة،‭ ‬يتلقّين‭ ‬اللكمات‭ ‬ويوجّهنها،‭ ‬وينتفضن‭ ‬ويغضبن‭ ‬ويسايرن‭ ‬ويفضحن‭ ‬ويوبّخن‭ ‬أنفسهنّ‭ ‬ويوبّخن‭ ‬مجتمعهن،‭ ‬ويفاوضن،‭ ‬ويضعفن،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬يستسلمن‭. ‬ككلّ‭ ‬مجتمع،‭ ‬تترواح‭ ‬الأشياء‭ ‬وتتحرّك‭ ‬ولا‭ ‬تبقى‭ ‬ثابتة‭ ‬على‭ ‬مكانةٍ‭ ‬أو‭ ‬حال؛‭ ‬وككلّ‭ ‬المجتمعات‭ ‬فأطر‭ ‬القمع‭ ‬شاملة،‭ ‬متعدّدة‭ ‬المستويات‭ (‬نعم‭) ‬ومتفاوتة‭ ‬التأثير‭ (‬نعم‭) ‬لكنّها‭ ‬شاملة،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تُفهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بعثرة‭ ‬عناصرها‭ ‬وفصلها‭ ‬عن‭ ‬بعضها،‭ ‬وفصلها‭ ‬عن‭ ‬سياقها‭ ‬التاريخيّ‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وعن‭ ‬علاقات‭ ‬القوّة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬المعاصر‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬النساء‭ ‬هنا،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصص،‭ ‬لا‭ ‬يحتجن‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬ينطق‭ ‬باسمهنّ‭ ‬أو‭ ‬يبرّر‭ ‬أفعالهنّ‭ ‬أو‭ ‬يفسّر‭ ‬تصرفاتهنّ‭ ‬أو‭ ‬تصرفات‭ ‬المجتمع‭ ‬تجاههنّ‭. ‬هنا‭ ‬سنجد‭ ‬الديناميكيّات‭ ‬الفاعلة،‭ ‬الداخليّة،‭ ‬in action،‭ ‬دون‭ ‬ندب‭ ‬أو‭ ‬استجداء‭ ‬للتعاطف‭ ‬وبيع‭ ‬للمظلوميّة‭ ‬لمركز‭ ‬أوروبي‭-‬أميركيّ‭ ‬يرفع‭ (‬كلاميًّا‭) ‬شعار‭ ‬المساواة‭ ‬الشكليّة‭ ‬للنساء،‭ ‬ويُسقط‭ (‬فعليًّا‭) ‬مساواة‭ ‬البشر‭. ‬هنا‭ (‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصص،‭ ‬التي‭ ‬كتب‭ ‬بعضها‭ ‬رجال‭) ‬سنجد‭ ‬ملامح‭ ‬نسويّة‭ ‬داخليّة‭ ‬حقيقيّة،‭ ‬مقابل‭ ‬النسويّة‭ ‬الاستشراقيّة‭ ‬الشكليّة‭ ‬الاستعراضيّة‭ ‬التي‭ ‬تحفل‭ ‬بها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الكتابات‭ ‬المنتشرة‭ ‬المترجمة‭ ‬عن‭ ‬العربيّة‭ ‬إلى‭ ‬الإنجليزيّة،‭ ‬تحديدًا‭ ‬لأن‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬كتبها‭ ‬كان‭ ‬بكتب‭ ‬وعينه‭ ‬على‭ ‬‮«‬الغرب‮»‬،‭ ‬أن‭ ‬يقبل‭ ‬فيه‭ ‬وأن‭ ‬يُترجم‭ ‬إليه،‭ ‬وهذه‭ ‬النسويّة‭ ‬الداخليّة‭ ‬ملمح‭ ‬ثالث‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬تعميمه‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬لكن‭ ‬يمكن‭ ‬ملاحظته‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬قصص‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭.‬

شكر‭ ‬وتقدير

بقي‭ ‬أن‭ ‬أشكر‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬لجهودهم‭ ‬أثر‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬ظهور‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬إلى‭ ‬النّور‭: ‬مترجمي‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬إلى‭ ‬الإنجليزيّة‭ ‬وهم‭: ‬أليس‭ ‬جوثري،‭ ‬وناريمان‭ ‬يوسف،‭ ‬ونشوى‭ ‬جوانلوك‭ ‬على‭ ‬جهودهم‭ ‬المتميّزة؛‭ ‬متحف‭ ‬هنديّة‭ ‬للفنون‭ ‬في‭ ‬الأردن،‭ ‬والقيّمة‭ ‬عليه‭ ‬حياة‭ ‬هنديّة،‭ ‬على‭ ‬توفيرهم‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنيّة‭ ‬المغربيّة‭ ‬المرافقة‭ ‬لهذا‭ ‬الملفّ،‭ ‬وهي‭ ‬جميعها‭ ‬من‭ ‬المجموعة‭ ‬الخاصّة‭ ‬للمتحف؛‭ ‬جينفر‭ ‬آكر‭ ‬رئيسة‭ ‬تحرير‭ ‬‮«‬ذي‭ ‬كومون‮»‬‭ ‬وعلاء‭ ‬عبد‭ ‬الهادي‭ ‬رئيس‭ ‬تحرير‭ ‬‮«‬أخبار‭ ‬الأدب‮»‬‭ ‬على‭ ‬إفساحهما‭ ‬المجال‭ ‬لمثل‭ ‬هذا‭ ‬الملفّ‭ ‬الذي‭ ‬يظهر‭ (‬بلغتين‭ ‬مختلفتين‭) ‬على‭ ‬ضفّتي‭ ‬الأطلسي،‭ ‬بالتزامن‭. ‬

هذا‭ ‬الملفّ‭ ‬هو‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬نوعه،‭ ‬سبقه‭ ‬ملفّ‭ ‬عن‭ ‬القصة‭ ‬في‭ ‬السّودان‭ ‬عام‭ ‬2020،‭ ‬وآخر‭ ‬عن‭ ‬القصّة‭ ‬في‭ ‬سوريّة‭ ‬عام‭ ‬2019،‭ ‬وثالث‭ ‬عن‭ ‬القصّة‭ ‬في‭ ‬الأردن‭ ‬عام‭ ‬2018،‭ ‬وستستمرّ‭ ‬هذه‭ ‬الملفّات‭ ‬سنويًّا‭ ‬لتتناول‭ ‬نماذج‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬القصصيّ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬قُطرٍ‭ ‬عربيّ‭ ‬في‭ ‬قادم‭ ‬الأيام‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬آمل،‭ ‬ويمكن‭ ‬للمتمّين‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الملفّات‭ ‬المترجمة‭ ‬كلّها،‭ ‬وأعداد‭ ‬المجلة‭ ‬جميعها،‭ ‬الكترونيًّا،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الرابط‭:‬

‬https‭://‬www.thecommononline.org/issues‭.

 

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي

 
 

 
 
 

ترشيحاتنا