قصص القرآن ملكة سبأ

الشعراوي
الشعراوي

يقول الحق فى سورة النمل :«قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ» ،«قَالَ سَنَنظُرُ»  والنظر محلُّه العين، لكن هل يُعرف الصدق والكذب بالعين؟ لا، فالكلمة انتقلت من النظر بالعين إلى العلم بالحجة، فهى بمعنى نعلم، ونقول: هذا الأمر فيه نظر يعني: يحتاج إلى دراسة وتمحيص.


وفى الآية مظهر من مظاهر أدب سليمان عليه السلام وتلطُّفه مع رعيته، فهو السيد المطاع، ومع ذلك يقول للهدهد: «أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين»  والصِّدْق يقابله الكذب، لكن سليمان عليه السلام يأبى عليه أدب النبوة أن يتهم أحد جنوده بالكذب فقال: «أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين» .يعني: حتى لو وقع منك الكذب فلست فذَّاً فيه، فكثير من الخَلْق يكذبون، أو: من الكاذبين مَيْلاً لهم وقُرْباً منهم، مما يدلُّ على أنه بإلهاماته كنبى يعرف أنه صادق، إنما ما دام الأمر محلَّ نظر فلابد أن نتأكد، ولن أجامل جندياً من جنودي.«اذْهَبْ بِكِتَابِى هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ».هذا هو النظر الذى ارتآه سليمان ليتأكد من صِدْق الهدهد: أنْ يرسله بكتاب منه إلى هؤلاء القوم، وهنا مظهر من مظاهر الإيجاز البليغ فى القرآن الكريم، فبعد أن قال سليمان «سَنَنظُرُ» قال «اذهب بِّكِتَابِى هذا» . فهل كان الكتاب مُعَدَّاً وجاهزاً؟ لا، إنما التقدير: قال سننظر أصدقتَ أم كنت من الكاذبين، فكتب إليها كتاباً فيه كذا وكذا ثم قال للهدهد: «اذهب بِّكِتَابِى هذا» وقد حُذِف هذا للعلم به من سياق القصة.


وقوله: «ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ»  يعني: ابتعِدْ قليلاً، وحاول أنْ تعرف «مَاذَا يَرْجِعُونَ» يعني: يراجع بعضهم بعضاً، ويتناقشون فيما فى الكتاب، ومن ذلك قوله تعالى: «أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً» والسياق يقتضى أن نقول: فذهب الهدهد بالكتاب، وألقاه عند بلقيس فقرأتْه واستشارتْ فيه أتباعها وخاصتها، ثم قالت: «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّى أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ»،نلحظ هنا سرعة جواب الأمر «اذهب» فبعده مباشرة قالت ملكة سبأ: «قَالَتْ ياأيها الملأ إنى أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ»  وهذا يدل على أن أوامر سليمان كانت محوطة بالتنفيذ العاجل؛ لذلك حذف السياق كل التفاصيل بين الأمر «اذهب» والجواب «قَالَتْ» هكذا على وجه السرعة.
و«إنى أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ» فوصفتْ الكتاب بأنه كريم إما لأنها سمعتْ عن سليمان عليه السلام وعظمة مُلْكه، أو لأن الكتاب سُطِّر على ورق رَاقٍ وبخط جميل، وبعد ذلك هو ممهور بخاتمه الرسمي، مما يدل على أنه كتاب هام ينبغى دراسته وأَخذْ الرأى فيه.«إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»،إذن: فهى تعرف سليمان، وتعرف نُبوّته وصفاته، وأنه يكاتبهم باسْم الله ويَصْدُر فى دعوتهم عن أوامر الله، وكان مجمل الكتاب بعد بسم الله الرحمن الرحيم: «أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ»،إنها برقية موجزة فى أبلغ ما يكون الإيجاز «أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ» العلو هنا بمعنى الغطرسة والزَّهو الذى يعتاده الملوك خاصة، وهى مِثْله، ملكة لها عَرْش عظيم، وأُوتيتْ من كل شيء وكونه يخاطبها بهذه اللهجة المختصرة البعيدة عن النقاش والجدال، لذلك بعد أن اخبرتْ مستشاريها بأمر الكتاب، وما ورد فيه طلبتْ منهم الرأى والمشورة: «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ».
هى قالت: «فى أَمْرِي» مع أن الأمر خاصٌّ بالدولة كلها، لا بها وحدها؛ لأنها رمز للدولة وللملْك، وإنْ تعرض لها سليمان فسوف يُخدش مُلْكها أولاً، ويُنال من هيبتها قبل رعيتها.